نشأة الإلحاد

نشأة الإلحاد












لا يوجد تاريخ محدد يمكن من خلاله إثبات بداية زمنية للإلحاد فهو ظاهرة طفيلية عبر الزمان لا توجد لها جذور حتى عند السوفسطائيون اليونانيون القُدامى .. وحتى أبيقور مؤسس مذهب المُتعة ومؤسس المدرسة الأبيقورية المُنحلة .. عاش عيشة متقشفة وكان رواقيا ساميا في أخلاقه عاش ومات على مذهب أهل الأديان في تبني الأخلاق وترك الإنغماس في الملذات واتخذ زوجة ومزرعة وعاش بما تُدره عليه دروس العلم التي كان يُلقيها لتلامذته .. وحتى فولتير أول المُلحدين والأب الروحي للإلحاد كان يشرح فلسفته الإلحادية لزملائه وفي نفس الوقت كان يشرح الأخلاق في إطار الدين لخدامه ويخشى على خدامه من الإلحاد وكان يدفعهم إلى الإيمان بالأخلاق في إطار ديني وكان يقول كلمته الشهيرة لو لم يكن هناك إله لخانتني زوجتي وسرقني خادمي .. بل وقام فولتير الملحد في أواخر حياته ببناء كنيسة بالقرب من قصره نقش على مدخلها يا رب اذكر عبدك فولتير وادعى أنها الكنيسة الوحيدة المخصصة لله وحده على هذه الأرض أما الكنائس الأخرى فهي مخصصة للقديسين وكان يرسل خدمه إلى الكنيسة بانتظام ويدفع أجور تعليم أبنائهم قواعد الديانة (1)

فالإلحاد كفلسفة مُستقلة لا توجد له جذورعبر كل التاريخ ولذا يقول المؤرخ الإغريقي بلوتارك: "لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد".

ويقول ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة م1 ص 99 " ولا يزال الإعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعم البشر جميعا اعتقادا سليما وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية"

أما في بلادنا الإسلامية فلم يوجد ملحد واحد في تاريخ الإسلام كله أما ما يُروى عن ابن الراوندي وابن المقفع وابن سينا وأبو حيان التوحيدي وغيرهم فعلى قلتهم الشديدة لم يكونوا ملحدين الإلحاد الاصطلاحي المعاصر وإنما كانوا أتباع فلسفات باطنية بل ويؤكد تاج الدين السُبكي في كتابه طبقات الشافعية أن أغلب هؤلاء أئمة مجتهدون لهم وعليهم ..

وفي عصرنا الحديث يصعب بشدة تحديد تاريخ محدد لظهور الإلحاد المُعاصر لكن أغلب المؤرخين الغربيين يؤرخون لبداية الإلحاد في أعقاب هدم سجن الباستيل سنة 1789 م مع بداية الثورة الفرنسية وظهر فعليا على الساحة العالمية بوصول البلاشفة للحكم في روسيا في أعقاب ثورة 1917 م .. لكن بقليل من الإنصاف سيظهر لنا أن البلاشفة بالفعل كانوا ملحدين وحاربوا الدين حربا شعواء وتبعا لمجلة التايم في عددها الصادر يوم 1-1-1956 فإن عدد الكنائس تقلص في الإتحاد السوفيتي من 46 ألف كنيسة سنة 1917 إلى 4 آلاف كنيسة سنة 1956 .. إلا أن البلاشفة الشيوعيون لم يكن إلحادهم إلحادا علميا أو فلسفيا أو فكريا بقدر ما كان إلحادا سياسيا فالدين من منظور ماركسي هو أحد البنى الفوقية بما في ذلك الفِكر والاجتماع والسياسة والتقاليد والقيم بينما الإقتصاد هو البنية التحتية الوحيدة للمجتمع الماركسي وكل البنى الفوقية هي إنعكاس لهذا البناء التحتي ولا توجد بنية فوقية واحدة مُستقلة وهذا يعني أن الدين عامل عارض يتم ازالته في مرحلة لاحقة حتى ينفرد العامل الإقتصادي بإدارة الأمة الماركسية .. ولذا فأغلب إحصاءات أعداد الملحدين حول العالم هي إحصاءات مزيفة وغير دقيقة بالمرة لأن أي دولة تُعلن الحُكم الإشتراكي يتم تحويل عدد سكانها في جداول البيانات من خانة الدين إلى خانة الإلحاد وهذا ما ذهب إليه صامويل هنتنجتون في كتابه صدام الحضارات إذ يقول في ص108" يُشكل الصينينون حوالي 92% من الملحدين حول العالم انظر جدول ص 107 فمع مجيء الشيوعية الى الصين تم تحويل كل اصحاب الديانات الارضية الى لادينيين في كل الدراسات الاحصائية لاصحاب الاديان في العالم ." وهذا تحويل قسري غير موضوعي بالمرة .. ولذا يرى المؤرخ الغربي بناءا على هذه الفكرة أن الإلحاد انتهى بصورته المؤسسية من العالم مع انهيار الإتحاد السوفيتي سنة 1989 م .. فالفترة بين عامي 1789 م و1989 م يمكن اعتبارها العصر الذهبي للإلحاد The Twilight of Atheism .. إذن فالإلحاد في الأصل فلسفية طفيلية بلا جذور أغلب أبعاده سياسية مجردة .. ولذا فالملحدين إلى الآن يتم تصنيفهم في أمريكا على أنهم أكثر الطوائف تعرضا للإضطهاد وبحسب بحث استقصائي على مدار عامين قامت به جامعة مانيسوتا الامريكية فإن الملحدين هم الأكثر اضطهادا في أمريكا ويفوقون في ذلك الشواذ جنسيا والمسلمين المتطرفين .(2)

وأمريكا أقوى دولة علمية في العالم ما زالت تصنف الملاحدة على أنهم غير مقبولين في المجتمع الأمريكي وكان هذا واضحا جدا في الكلمة التي قالها جورج بوش الأب حين سألة صحفي أمريكي في عام 1987 " هل يمكن اعتبار الملحد الامريكي متساوي في الجنسية والمواطنة مع غيره من الامريكان ." وأصبح رد السيد بوش مشهورا حين قال " لا اعرف اذا كان من الممكن اعتبار أن الملحدين مواطنين أو حتى اعتبارهم محبين للوطن هذه أمة موحدة تحت راية الله ." Atheist cannot be considered as patriotic citizen

وطبقا للواشنطن بوست في بحث آخر مستقل فإنه على الرغم من حصول الشواذ جنسيا على بعض الحقوق ونالوا بعض الإحترام من المجتمع الأمريكي ما زال الملحدون الأمريكيون يمثلون أكثر فئات أمريكا احتقارا وكراهية بسبب ما يبدونه من انعدام للأخلاق وعدم الثقة ورعونة في مبادئهم فإن المجتمع الأمريكي سريعا ما يلفظهم ويتردد كثيرا الأمريكيون في إقامة علاقة مع ملحد أو مجرد تولي منصب وظيفي أو حتى المشاركة في فرق الكشافة الشبابية خاصة لما يبدونه من صفات عدم تحمل الأمانة في اختبارات التأهيل العسكري الذي تُجريه المؤسسات النفسية العسكرية بأمريكا .(3)

ولذا يرى جون لوك مؤسس الدولة المدنية في رسالته في التسامح جون لوك ص57 أن الملحد غير مقبول في المجتمع المدني يقول " لا يمكن التسامح على الاطلاق مع الذين ينكرون وجود الله .. فالوعد والعهد والقسم من حيث هي روابط المجتمع البشري ليس لها قيمة بالنسبة الى الملحد فانكار الله حتى لو كان بالفكر فقط يفكك جميع الاشياء "

ختاما فالإلحاد بدأ غريبا على البشر وعاش غريبا على البشر ويموت غريبا على البشر .

_______________________________________________

(1)  قصة الحضارة ول ديورانت المجلد 38 صفحة 214
(2)  http://newsjunkiepost.com/2009/09/19/research-finds-that-atheists-are-most-hated-and-distrusted-minority/
(3) http://www.washingtonpost.com/opinions/why-do-americans-still-dislike-atheists/2011/02/18/AFqgnwGF_story_1.html
كافة الحقوق محفوظة 2017 - لا إلحاد | تعريب سعيد زنـاني