التطور الصغير المفقود

التطور الصغير المفقود


ظهرت ملايين الأنواع الجديدة من الكائنات الحية لا شك في ذلك.

تضع هذه الحقيقة مشكلة أمام التطور الدارويني، فبحسابٍ صغير وطبقًا لما تفترضه الداروينية فإن عدد أنواع الكائنات الحية على زمن ظهورها يعني ببساطة كائن حي جديد يظهر للوجود كل بضعة ساعات. هذه حقيقة لا علاقة لها بكونك تطوريًا أو رافضًا للتطور! -1-

لكن هذه الحقيقة لم نتحرى ولو جزء يسير منها يقنعنا أننا نمضي في الاتجاه الصحيح .

فلم يتم رصد تحول كائن حي إلى كائن حي آخر على الإطلاق، وقد ذكر عالم الجراثيم بجامعة بريستول آلان لينتون Alan H. Linton عام 2001م حقيقة هذا الأمر فقال: "لا يوجدُ أي منشور علمي يدَّعي تطورَ نوعٍ ما إلى نوعٍ آخر. والجراثيم هي الشكل الأبسط من أشكال الحياة المستقلة، وهي مثاليةٌ لمثل هذا النوع من الدراسات فزمن الجيل 20 – 30 دقيقةً ويمكنُ الحصولُ على الجماعات خلال 18 ساعة. وخلال 150 عامًا من انطلاق علم الجراثيم لم يسجَّلْ تطور نوع جرثومي إلى نوع آخر نهائياً. ونظراً لانعدام الدليل حول تغير الأنواع في الشكل الأبسط من أشكال الحياة وهو الجراثيم، فلن يكونَ مستغربًا فقدانُ الدليل حول تطور الكائنات الحية الأرقى متعددة الخلايا." -2-

وهذه كانت نفس النتيجة التي توّصل لها عالما الأحياء التطورية مارغيليوس Lynn Margulis وساغان Dorion Sagan حيث ذكرا في عام 2002 ما يلي: "لمْ نستطعْ اقتفاءَ دليلٍ مباشرٍ على الانتواع –ظهور الأنواع الجديدة- سواءً كان في جزر الجالاباغوس البعيدة Archipiélago de Colón أو في أقفاص مختبرات خبراء ذبابة الفاكهة أو في الرسوبات المتكدسة". لا يزالُ الدليلُ الحاسمُ على التطور مفقوداً. -3-

لقد كان داروين Charles Darwin يظن منذ قرابة القرن ونصف من الزمان أنَّ الأنواعَ طيِّعَةٌ للتغيير بشكلٍ لا نهائي، فهي تتغير تطوريّاً بلا انتهاء. إلَّا أنَّ عقوداً من الأدلَّة المتجمعة قد تحدت هذا الاعتقاد.

فكل ما رصدناه هو مجرد تغيرات ضمن النوع الواحد. فزيادةُ نسبةِ العثّ الإنجليزي peppered moths الغامق خلال فترة الثورة الصناعية لم يكن أكثر من مجردُ تنوعٍ لوني ضمن نوع العث نفسه، وقد وفَّرت لنا علوم الهندسة الوراثية أبقارًا وفيرةَ اللحم ودجاجاً ألذَّ في الطعم وذُرَةً أغنى بالبروتين؛ لكن الماشيةَ ظلَّت ماشية والدجاج ظلَّ دجاجاً والذُّرَة ظلت ذرة.

كل ما في الأمر أنه ازدادَ إنتاج النباتات والحيوانات المدجنة بشكلٍ كبيرٍ من خلال استغلال التنوع الوراثي؛ لكن في كل الحالات استنفذ التنوع أقصى حد ولم يعدْ بالإمكان حصول المزيدِ من التغيُّرِ فيها.

وفي النهاية لم يستطعْ أحد أبداً أنْ يثبتَ إنتاج علوم الهندسة الوراثية لنوعٍ واحدٍ جديد فضلاً عن إنتاج الأعضاء الجديدة والنظم الجسدية المطلوبة من أجل حصول التطور الكبير.

فكل الأدلة تشير إلى نتيجةٍ واحدة: لم نر حتى الآن أي انتواعٍ أولي فضلاً عن أن نرى تطوراً كبير المستوى. -4-

لكن هنا قد يتسائل أحدهم قائلاً: أليست مقاومة الباكتريا للمضادات الحيوية صورة أولية مبسطة من تغير الأنواع في الكائنات الجرثومية؟

في حقيقة الأمر هذا ليس تطورًا بالمفهوم الاصطلاحي للتطور، بل هو أقرب إلى الانتكاسة Devolution منه إلى التطور Evolution ، ففي مقاومة الباكتريا للمضادات الحيوية ما يحدث هو الانتقال الأفقي للجينات Horizontal Gene Transfer والمقصود به هو انتقال الجينات المسئولة عن مقاومة الباكتيريا ضد المضاد الحيوي من خليةٍ إلى خليةٍ أخرى، وهي خاصية شائعة في الباكتيريا، و انتقال جين المقاومة من خلية بكتيرية إلى خلية بكتيرية أخرى يؤدي إلى اكتساب هذه الأخيرة لصفة جديدة لم تكن موجودة فيها من قبل.

نضيف إلى هذا حقيقة هامة؛ وهي أن الباكتيريا التي تكتسب جينات المقاومة ضد المضادات الحيوية (أو أية جينات أخرى) تظل كما هي حاملة لكل الصفات والسمات الطبيعية والبيولوجية لنوعها وفصيلتها، ولا تتحول إلى كائن مختلف، فالباكتيريا المسببة لمرض معين في الإنسان مثلاً تظل كما هي تسبب نفس المرض وأعراضه وعلاماته وتسلك نفس السلوك، الفرق الوحيد يكمن في مقاومتها للمضادات الحيوية التي تحمل جينات مناعية ضدها. -5-

لكن لماذا هي انتكاسة وليست تطوراً؟

لأن مقاومة المضاد الحيوي في الغالب تتم من خلال التضحية بأجزاء من الشفرة الوراثية بحيث لا يتعرف عليها المضاد الحيوي، وتقوم الباكتريا بعد ذلك بنقل هذا الجين المبتور إلى الخلايا الجرثومية المجاورة، فالمناعة التي تكتسبها الميكروبات نتيجة عمليات تكسير وليس بناء .

وبعد أن يختفي المضاد الحيوي تبدأ السلالات التي لم تفقد أي جزءٍ من شفرتها الوراثية في التكاثر مجددًا، حيث تصبح أقوى من السلالة التي قاومت المضاد الحيوي وفقدت جزءاً من شفرتها.

وخير مثالٍ على ذلك: "عقار الكلوروكوين Chloroquine" المضاد لطفيل الملاريا Malaria؛ حيث تم تطوير هذا العقار في ثلاثينيات القرن الماضي وظل العقار فعالاً طيلة خمسين عامًا، وفجأةً وبحلول الثمانينيات أصبحت تقريبًا كل سلالات الملاريا لديها مقاومة لهذا العقار، فتوقف الأطباء عن وصفه للمرضى. وبعدها مباشرةً ماتت السلالات المقاومة للعقار وحلت محلها الطفيليات الغير مقاومة للعقار؛ إذن فالسلالات المقاومة لم تكن نسخة أكثر صلاحية وإنما سادت المشهد لفترةٍ قصيرة.

وقد رصدت مجلة الأمراض الوبائية The Journal of Infectious Diseases الصادرة عن أوكسفورد Oxford Journals دراسة خاصة بهذا الشأن خرجت منها بنتيجة أن: طفيل الملاريا المقاوم لعقار الكلوروكوين حدثت له طفرات وتحورات تضمنت فقدان للوظيفة الأصلية لأحد الجينات داخل الملاريا، فالطفرة التي تمنح المقاومة هي أقل صلاحية من النمط العادي. -6-

أضف إلى ما سبق أن: هذه الطفرات تحدث داخل نفس النوع ولم يثبت أبدًا أن مثل هذه الطفرات خلّقت مثلاً مادة وراثية جديدة داخل DNA بل لم تُخلِّق حتى موقع ربط واحد بين بروتين وبروتين في غشاء الخلية البكتيرية. تخّيل إلى أي حد وصل الوضع؟ -7-

والخلاصة: لا تُنتج تغيرات الهندسة الوراثية أبنية جديدة داخل الخلايا، ولا تزيد المعلومة الجينية، ولا التعقيد البيولوجي؛ وبالتالي يستحيل أن تحلل الطفرات تطور النوع نحو الأفضل فضلاً عن ظهور أنواع جديدة لديها كومة عملاقة منضبطة من القواعد النيتروجينية مشفرة لوظائف جديدة ستظهر في كائن جديد!

وقد نشرت مجلة علم الأحياء النمائي Developmental Biology التطورية مقالاً اشترك فيه مجموعة من علماء الأحياء وانتهى إلى أن: "التغيرات في مجالات الهندسة الوراثية قد تؤدي إلى التكيف مع البيئة لكن هذا لا يعني ظهور الأصلح، ويبدو أن أصل الأنواع -مشكلة داروين- يبْقى مشكلةً غير محلولة." -8-

وفي اعترافٍ غير مسبوقٍ –ربما-؛ اجتمع أكثر من مائة وخمسون باحثًاً في ملف التطور حول العالم في أحد المؤتمرات بجامعة شيكاغو University of Chicago لبحث آليات ظهور الأنواع، وكان السؤال المحوري في المؤتمر حول ما إذا كانت تغيرات الهندسة الوراثية وطفرات الجراثيم كافية لشرح ظواهر التطور الكبير –ظهور الأنواع الجديدة- وكانت الإجابة الواضحة هي: "لا". -9-

إنّ عجزنا عن رصد تطور أولي طيلة عقود من التجارب والاختبارات مع كائنات أولية ومعقدة يعني أن قضية التطور برُمتها خارج إطار العلم التجريبي والرصدي حتى الساعة، وهذا يدفعنا إلى التعامل مع التطور كفرضية قد تبدو مبهجة لبعض أصحاب الأيديولوجيات المادية لكنها تظل عصّية على التثبت فضلاً عن الجزم بصحتها!

------------------------
1- يوجد على ظهر الأرض حاليًا ما يزيد على 3 مليون نوع من الكائنات الحية، وأضعاف هذه الأنواع منقرضة بحسب الداروينية، وأضعاف أضعاف هذه الأرقام المفترض أنها حلقات وسيطة، بحساب هذه الأعداد على زمن ظهورها منذ لحظة الانفجار الكبير، فإن الناتج هو كائن حي يظهر للوجود لأول مرة كل بضعة ساعات.
2- Alan Linton, Scant Search for the Marker, the Timer Higher Supplement (April 20.2001) Book Section 29. (تصميم الحياة، د.ويليام ديمبسكي ود.جوناثان ويلز، ترجمة د.مؤمن الحسن وآخرين، دار الكاتب ص151-152)
3- Lynn Margulis and Dorion Sagan, Acquiring Genomes: A Theory of the Origins of Species, p.32. (م.س. ص152)
4- تصميم الحياة، د.ويليام ديمبسكي ود.جوناثان ويلز، ترجمة د.مؤمن الحسن وآخرين، دار الكاتب ص155-156 بتصرف.
5- Bjِrkholm, B., I. Nagaev, O.G. Berg, D. Hughes, and D.I. Andersson. 2000. Effects of environment on compensatory mutations to ameliorate costs of antibiotic resistance. Science 287:1479-1482. ( من مقال للدكتور هشام عزمي -أخصائي التخدير والعناية المركزة بمعهد ناصر للبحوث والعلاج- على منتدى التوحيد)
6- http://jid.oxfordjournals.org/content/184/6/770.long
7- Michael J. Behe, Darwin’s Black Box
8- Scott F. Gilbert, John M. Opitz, Rudolf A. Raff, Resynthesizing Evolutionary and Developmental Biology , Developmental Biology Magazine, Vol173, P.357-372.
9- http://www.sciencemag.org/content/210/4472/883.extract



كافة الحقوق محفوظة 2017 - لا إلحاد | تعريب سعيد زنـاني